مشكلة فلسطين (10)

.
.

بقلم - شنودة الأمير

في يافا تنبثق جمعية إسلامية – مسيحية مواكبة للأوضاع السياسية، لا نعرف تاريخ تكوينها، ولكنها أرسلت احتجاجا على احتفلات اليهود بذكرى وعد بلفور، وأشارت إلى أن فلسطين بلد عربي، وأن العرب فيها تزيد أعدادهم عن اليهود ثلاثين مرة على الأقل وأن اليهود ليس لهم أي حق في البلد، وأيضا: "كيف سيكون الوضع إذا طالب العرب بالأندلس؟"، وتطالب بحكم ذاتي في القدس، ويحدث أمر مشابه ولكن عبر جمعية القدس التي تطالب بضم فلسطين لسوريا وإعلان الشريف حسين خليفة للمسلمين.

ووسط التموجات يُنشر ما يسمى تصريح إبرلان وهو صهيوني يساري كتب "إلى العرب، رسالة مفتوحة من صهيوني" بالطبع كان يريد طرح وجهات النظر الصهيوينة والتقريب بينه وبين العرب، ولكنه قال نوايا الصهيونية الحقيقة ورؤيتها، ومختصرها: أن اليهود لهم حق تاريخي منذ أن اقتلعهم الرومان من وطنهم بالسيف – طبعا يتحدث عن العام 70م – وأن كل يهودي في العالم له حق المواطنة في فلسطين!! وأننا سنعامل العرب بالمثل معاملة عادلة، والخلاصة أن أي مقاومة ستكون فاشلة لأنكم "لن تصطدموا بنا وحدنا، فسوف تجدون في مواجهتكم الحلفاء الظافرين".

وفي نفس الوقت هناك محاولات محمومة من المنظمة الصهيونية لتغيير ديمغرافية فلسطين في أسرع وقت، حيث إن بها 66 ألف يهودي مقابل 573 ألف من غير اليهود (بحسب تقرير كيرزون 1918م).

وفي مؤتمر الصلح، وهو المؤتمر الذي تعقده الدول المنتصرة بعد الحرب لتقسيم الغنائم –أيا كانت المسميات – وهو ما تم بالفعل، يقنع لورانس الأمير فيصل بتجنب مسألة فلسطين، وإن كان البعض يتهم الأطراف العربية بالخيانة الآن بناء على توجهاتهم ورؤيتهم، إلا أن من يدرس الأمور بعين فاحصة يفهم جيدا أن دهاة السياسة في الغرب وأن ميزان القوى وأن المصالح المشتركة – سواء واقعيا أو تخيلا- هي التي فرضت نفسها، مع عدم وضوح الرؤية السياسية للجانب العربي، وثقته المفرطة في البريطانيين، والتي لم تكن بمحلها إطلاقا.

ويستغل الغرب ذلك، فالجانب العربي ينقسم بمن يريد مملكة عربية متحدة كاملة تحت ولايته كالأمير فيصل وعائلته، ومن يريد سوريا –والتي تشمل هنا سوريا وفلسطين ولبنان- مستقلة كالقوميين السوريين، ومن يريد لبنان مستقلا، ومن يريد سوريا الكاملة تحت الانتداب البريطاني حتى لا تنفجر هذه الصراعات، ومن يريدها فرنسية.. إلخ.

أما من ناحية فلسطين، فيحدد جوسان ثلاثة اتجاهات سياسية في هذا التوقيت (مؤتمر الصلح)، اتجاه يريد استقلالًا كاملًا، واتجاه مع الأشراف (الهاشميين) باسم الإسلام والعروبة ومعاداة الصهيونية، والفريق الثالث وهو الأكثر عدداً فيطالب بضم فلسطين إلى سوريا.. وهذا الاتجاه يثير قلق بريطانيا لأن سوريا سيحكمها الأمير فيصل تحت نفوذ فرنسي، كما اتفق عليه سابقا.

كان مؤتمر الصلح قد اتفق ضمنيا على مبدأ تقرير المصير للأمم التي كانت واقعة تحت الدول المهزومة، ولكن في فبراير 1919م، يكتب بلفور إلى لويد جورج وزير خارجية بريطانيا أنه لا يمكن تطبيق هذا المبدأ على فلسطين، "لأن السكان الحاليين إذا استشيروا فصوف يصوغون دون أدنى شك رفضاً للصهيونية. ومن ثم يجب اعتبار فلسطين ذات وضعية استثنائية بأخذ مصالح جميع يهود العالم بعين الاعتبار".

ويتم إرسال لجنة لبحث لتقصي الأمور على أرض الواقع في سوريا وفلسطين، والنتيجة أن غالبية السكان تطالب باستقلال كامل والبعض يطالب بحماية خارجية ما بين فرنسا وانجلترا والقليل أمريكا، ولكن الجميع يرفض المشروع الصهيوني، حتى أن كينج وكرين، قال في مذكرة رفعها للرئيس الأمريكي ويلسون: "أيا كانت الدولة المنتدبة يتعين عليها استخدام قوة مسلحة إذا أرادت فرض البرنامج الصهيوني".

تبدأ ضربات خطيرة للقوات المنتصرة، فمع انتشار جيوش بريطانيا في ربيع 1919 ينشب تمردات في أيرلندا ومصر وجزر الهند الغربية، وكما يرى هنري لورانس في مثل هذا الظرف الخطير يُحسن مراعاة جانب يهود العالم، يبدو أن ضعف الدول المنتصرة جزء من أسباب نجاح المشروع الصهيوني، عندما نتأمل مقولة لورانس قد نجدها مبالغة، ولكن، د. ريجينا الشريف – كمثال- في كتابها "الصهيونية غير اليهودية" توضح كم تغلغلت الفكرة في أوساط مثقفي وسياسي أوروبا، وبالأخص بريطانيا وفرنسا وأمريكا، أي الدول صاحبة الدور الأكبر في وضع خارطة ما بعد الحرب.

كانت هناك مراعاة أساسية لمنح الصهاينة نصيب الأسد في الموارد المائية لأنهار الليطاني والأردن واليرموك، والغريب يجري استخدام رؤية توراتية في تحديد الأرض اليهودية، فيُعتمد على النص التوراتي "من دان إلى بئر سبع"، وتُعتمد خرائط صنعها البروتستانتي آدم سميث –وهو ليس عالم الاقتصاد الشهير- الذي أعد خرائط توضح حدود الأرض المقدسة – بناء على التوراة بالطبع – في مختلف العصور، وبئر سبع معروفة لأن هناك مدينة حديثة تحمل اسمها (على أساس أنها تقوم في نفس المكان!!!) أما دان فقد تم تحديدها في قلب منطقة منابع الأردن. دعنا نضيف أن الحدود مع مصر محددة سلفا بسبب مشكلة أزمة طابا مع الدولة العثمانية سابقا. ويتم تغيير حد (سايكس – بيكو) في الحدود إلى خط "دوفيل" هو يراعي أطلس سميث في مواقع ولا يراعيها عن حدود نهر الليطاني.

نجد أن سياسة بريطانيا كانت مضطربة في هذه الأثناء، فوفاؤها بتعهدها بوعد بلفور للصهاينة سيضر بكل مصالحها الحقيقية في الشرق الأوسط، دعنا نلقي نظرة سريعة في وسط العام 1919: تقدم القوات اليونانية في الأناضول الذي قاد إلى احتداد المقاومة التركية، وسخط عميق من كل العالم الإسلامي، وسخط السكان في فلسطين على صهيونية تتحول إلى عداوة خطرة للبريطانيين، ومصر تموج بحركات الإضطراب والثورة، ويقوم ضباط عراقيون سابقون في إثارة القلاقل ضد الفرنسيين في الموصل سعيا لحكم ذاتي، وفي كردستان يكثف الكماليون والأفغان والبلاشفة من الأعمال العدائية، ويغرق القوقاز في الفوضى بعد الجلاء البريطاني.. رغم انتصار الحلفاء إلا إننا أمام عالم يموج بالاضطرابات.

الصورة: من مؤتمر الصلح، بالترتيب تيودور ويلسون (أمريكا)، كلمنصو (فرنسا) إيمانويل أورلاندو (إيطاليا)، ديفيد لويد جورج (بريطانيا)

ترشيحاتنا